فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي لا تكن يا محمد لصالح الخائنين مخاصما للبراء. وقوله الحق هنا: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا، وإلا سيكون البغض لصالح عدوكم، وبغض المؤمن إذا حمله على اتباع هواه سيكون لصالح العدو؛ لأن الله سيعاقب المؤمن لو أدخل الهوى والبغض في إقامة الميزان العادل. فتحكيم البغض والعِداء والهوى يكون لصالح الخصوم؛ لذلك لا يحملنكم أيها المؤمنون شنآن- أي بغض- قوم على ألا تعدلوا.
ويضيف الحق: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} والعدالة حين تُطلب مع الخصم هي تقريع لذلك الخصم لأنه خالف الإيمان. ومن المؤكد أن الخصم يقول لنفسه: إن عدالة هذا المسلم لم تمنعه من أن يقول الحق ولابد أن عقيدته تجعل منه إنسانًا قويًا، وأن دينه الذي أمره بذلك هو نعم الدين.
إذن ساعة تحكم أيها المؤمن بالعدل لخصمك فأنت تقرعه لأنه ليس مؤمنا، لكن لو رأى خصمك أنك قد جُرت ولم تذهب إلى الحق، فأنت بذلك تشجعه على أن يبقى كافرًا؛ لأنه سيعرف أنك تتبع الهوى. أما إذا رآك وأنت تقف موقفًا يرضي الله مع أنه خصم لك، فهو يستدل من ذلك على أن العقيدة التي آمنت بها هي الحق، وأنك تقيم الحق حتى في أعدائك.
وهكذا يقرع الخصمُ العقدي نفسَه، وقد يلفته ذلك إلى الإيمان.
{اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} أقرب إلى أي تقوى؟ أأقرب إلى تقوى المؤمن؟ أم أن الخصم يكون أقرب إلى التقوى حين يرى المؤمن مقيمًا للعدل والحق، فلعله يرتدع نفسه ويقول: إن الإيمان قد جعل هذا المسلم يتغلب على البغض وحكم بالحق على الرغم من أنه يعلم أنني عدو له.
ولنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة، فقد جاءه رجل غريب يسأله طعامًا أو مبيتًا، فسأله إبراهيم عن دينه. فوجده كافرًا، فلم يجب مسألته. وسار الرجل بعيدًا، فأنزل الله سبحانه على إبراهيم وحيًا: أنا قبلته كافرًا بي ومع ذلك ما قبضت نعمتي عنه. وسألك الرجل لقمة أو مبيتَ ليلةٍ فلم تجبه. وجرى سيدنا إبراهيم خلف الرجل واستوقفه، فسأل الرجل سيدنا إبراهيم؛ ما الذي حدث لتغير موقفك، فقال سيدنا إبراهيم: إن ربي عاتبني في ذلك. فقال الرجل: نعم الرب إله يعاتب أحبابه في أعدائه، وآمن الرجل.
وهذا يوضح لنا معنى {أَقْرَبُ للتقوى} فقد صار الرجل الكافر أقرب للتقوى. إذن: فالمعنى النفسي الذي يصيب خصمك أو من يغضبك أو من بينك وبينه شنآن، حين يراك آثرت الحق على بغضك له، يجعله يلتفت إلى الإيمان الذي جعل الحق يعلو الهوى ويغلبه ويقهره، ويصير أقرب للتقوى. وأيضًا من يشهد بالقسط هو أقرب للتقوى.
ويذيل الحق الآية بقوله: {واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فهو سبحانه الخبير بما نعمل. وإياك أيها المؤمن أن تصنع ذلك لشهرة أن يُقال عنك إنك رجل حكمت على نفسك. ولكن اعمل من أجل الله حتى وإن كان الموقف يستحق منك الفخر.
إن كثيرا من الناس يحكمون بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل، كيف؟ لنفرض أنه قد عُرضت عليك قضية هي خصومة بين ابنك وابن جارك؛ الشجاعة الأولى تفرض أن تحكم لابن جارك وهو غير محق على ابنك، لكن الشجاعة الأقوى أن يكون الحق لابنك وتحكم له، أما إن حكمت لابن جارك- وهو غير محق- في هذه الحالة تكون قد حكمت بالظلم لتشتهر بين الناس بالعدل!
يجب أن يكون الحق أعز عليك من ابنك وابن جارك، وإياكم أن تعملوا أعمالًا ظاهرها عدل وباطنها رياء؛ لأننا نعلم أن لكل جارحة من الجوارح مجالًا تؤدي فيه وظيفتها؛ فاللسان أداؤه ووظيفته القول، والأذن فعلها أن تسمع، والأنف أداؤه أن يشم، ويجمع الجميع العمل. فالعمل إما أن يكون قولًا وإما أن يكون فعلا.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].
إذن فالقول محله اللسان، والفعل محله بقية الجوارح، والاثنان يجمعهما العمل. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}.
أخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط..} الآية نزلت في يهود خيبر؛ ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينهم في دية فهموا ليقتلوه، فذلك قوله: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا..} الآية. والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ}: تقدَّم نظيرُها في النساء إلا أنه هناك قَدَّم لفظة {القسط} وهنا أُخِّرت، وكأن الغرضَ في ذلك- والله أعلمُ- أنَّ آية النساء جيء بها معرض الإِقرار على نفسِه ووالديه وأقاربه فبُدِىء فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباةِ نَفْس ولا والدٍ ولا قرابة والتي هنا: جِيء بها في معرض ترك العداوة فبُدِئ فيها بالأمر بالقيام لله؛ لأنه أردعُ للمؤمنين، ثم ثَنَّى بالشهادة بالعدل، فجيء في كل مَعْرِضٍ بما يناسِبُه. وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُم} [المائدة: 2] تقدَّم مثله، وظهورُ حرفِ الجر هنا يرجِّع تقديرَه قبلُ. «هو أقرب»: «هو» ضمير المصدر المفهوم من الفعل أي: العدل، وقد تقدَّم له نظائُر كثيرة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (9):

قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أمر سبحانه ونهى، بشر وحذر فقال: {وعد الله} أي الملك الذي له الكمال المطلق فله كل شيء {الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم {وعملوا} تصديقًا لهذا الإقرار {الصالحات} وترك المفعول الثاني أقعد في باب البشارة، فإنه يحتمل كل خير، وتذهب النفس في تحريزه كل مذهب.
ولما كان الموعود شيئين: فضلًا وإسقاط حق قدم الإسقاط تأمينًا للخوف فقال واضعًا له موضع الموعود في صيغة دالة على الثبات والاختصاص: {لهم مغفرة} أي لما فرط منهم لما طبع الإنسان عليه من النقص نسيانًا أو عمدًا، بعمل الواجبات إن كان صغيرة، وبالتوبة إن كان كبيرة، وفيه إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره؛ ولما أمنهم بالتجاوز أتبعه الجود بالعطاء فقال: {وأجر} أي على قدر درجاتهم من حسن العمل {عظيم} أي لا يدخل تفاوت درجاته تحت الحصر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

المغفرة إسقاط السيئات كما قال: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [الفرقان: 70] والأجر العظيم إيصال الثواب، وقوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} فيه وجوه:
الأول: أنه قال أولًا {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فكأنه قيل: وأي شيء وعدهم؟ فقال: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
الثاني: التقدير كأنه قال: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال لهم مغفرة وأجرٌ عظيم، والثالث: أجرى قوله: {وَعْدُ} مجرى قال، والتقدير: قال الله في الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم، والرابع: أن يكون {وَعْدُ} واقعًا على جملة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي وعدهم بهذا المجموع.
فإن قيل: لم أخبر عن هذا الوعد مع أنه لو أخبر بالموعود به كان ذلك أقوى؟
قلنا: بل الأخبار عن كون هذا الوعد وعد الله أقوى.
وذلك لأنه أضاف هذا الوعد إلى الله تعالى فقال: {وَعَدَ الله} والإله هو الذي يكون قادرًا على جميع المقدورات عالمًا بجميع المعلومات غنيًا عن كل الحاجات، وهذا يمتنع الخلف في وعده، لأن دخول الخلف إنما يكون إما للجهل حيث ينسى وعده، وإما للعجز حيث لا يقدر على الوفاء بوعده، وإما للبخل حيث يمنعه البخل عن الوفاء بالوعد، وإما للحاجة، فإذا كان الإله هو الذي يكون منزّهًا عن كل هذه الوجوه كان دخول الخلف في وعده محالًا، فكان الإخبار عن هذا الوعد أوكد وأقوى من نفس الأخبار عن الموعود به، وأيضًا فلأن هذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عن سكرات الموت فتسهل بسببه تلك الشدائد، وبعد الموت يسهل عليه بسببه البقاء في ظلمة القبر وفي عرصة القيامة عند مشاهدة تلك الأهوال. اهـ.

.قال القرطبي:

ومعنى {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي قال الله في حق المؤمنين: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي لا تعرف كنهه أفهام الخلق؛ كما قال: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
وإذا قال الله تعالى: {أَجْرٌ عَظِيمٌ} و{أَجْرٌ كَرِيمٌ} و{وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} فمن ذا الذي يقدر قدره؟.
ولما كان الوعد من قبيل القول حسن إدخال اللام في قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وهو في موضع نصب؛ لأنه وقع موقع الموعود به، على معنى وعدهم أنّ لهم مغفرة، أو وعدهم مغفرة إلاَّ أن الجملة وقعت موقع المفرد؛ كما قال الشاعر:
وَجَدْنا الصَّالحين لهم جزاءَ ** وَجِنَّاتٍ وَعَينًا سَلْسَبِيَلا

وموضع الجملة نصب؛ ولذلك عطف عليها بالنصب.
وقيل: هو في موضع رفع على أن يكون الموعود به محذوفًا؛ على تقدير لهم مغفرة وأجر عظيم فيما وعدهم به.
وهذا المعنى عن الحسن. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} من الواجبات والمندوبات ومن جملتها العدل والتقوى {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} جملة مستأنفة مبينة لثاني مفعولي {وَعْدُ} المحذوف كأنه قيل: أي شيء وعده؟
فقيل: لهم مغفرة إلخ.
ويحتمل أن يكون المفعول متروكًا والمعنى قدم لهم وعدًا وهو ما بين بالجملة المذكورة، وجوز أن تكون مفعول وعد باعتبار كونه بمعنى قال، أو المراد حكايته لأنه يحكي بما هو في معنى القول عند الكوفيين، ويحتمل أن يكون القول مقدرًا أي وعدهم قائلًا ذلك لهم أي في حقهم فيكون إخبارًا بثبوته لهم وهو أبلغ، وقيل: إن هذا القول يقال لهم عند الموت تيسيرًا لهم وتهوينًا لسكرات الموت عليهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

عُقّب أمرهم بالتّقوى بذكر ما وَعد الله به المتّقين ترغيبًا في الامتثال، وعطف عليه حال أضداد المتّقين ترهيبًا.
فالجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا.
ومفعول {وعد} الثّاني محذوف تنزيلًا للفعل منزلة المتعدّي إلى واحد.
وجملة {لهم مغفرة} مبيّنة لجملة {وعد الله الذين آمنوا}، فاستغني بالبيان عن المفعول، فصار التقدير: وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرًا عظيمًا لهم.
وإنَّما عدل عن هذا النظم لما في إثبات المغفرة لهم بطريق الجملة الاسمية من الدلالة على الثبات والتقرّر. اهـ.